إرفين شرودنغر، الفيزيائي النمساوي المعروف، يُعَدُّ واحدًا من أبرز العلماء في مجال الفيزياء النظرية في القرن العشرين.
وُلد شرودنغر في فيينا عام 1887، ونشأ في بيئة تعليمية قوية حيث أظهر شغفًا مبكرًا للعلوم، وخاصة الرياضيات والفيزياء.
تطور هذا الشغف ليصبح مهنة زاخرة بالابتكار والاكتشافات العلمية التي غيرت مفهومنا للطبيعة والكون.
الحياة المبكرة والتعليم
نشأ إرفين شرودنغر في أسرة مثقفة؛ كان والده تاجرًا ناجحًا وهاويًا للعلم، مما أتاح لشرودنغر بيئة محفزة للاهتمام بالعلوم.
تلقى تعليمه في مدارس فيينا وبرز بسرعة كطالب متميز. التحق بجامعة فيينا حيث درس الفيزياء تحت إشراف بعض من أبرز علماء الفيزياء في ذلك الوقت، مثل فرانز إكسنر وفريدريش هاسينوهرل.
حصل شرودنغر على درجة الدكتوراه في عام 1910، وبدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الفيزياء النظرية.
مسيرته العلمية وإنجازاته
يُعَد شرودنغر من أبرز المؤسسين لميكانيكا الكم، وهي النظرية التي تصف سلوك الجسيمات دون الذرية.
في عام 1926، نشر شرودنغر مجموعة من الأبحاث التي أدخلت معادلة الموجة الشهيرة، التي تُعرف الآن باسم “معادلة شرودنغر”.
هذه المعادلة كانت تقدم وصفًا رياضيًا لسلوك الجسيمات في مستوى الكم، ووضعت أساسًا لفهم كيفية تصرف الجسيمات دون الذرية بشكل دقيق.
تُعتبر معادلة شرودنغر من أهم الإسهامات في مجال الفيزياء؛ فهي تُمثل الأساس الذي تقوم عليه ميكانيكا الكم وتشرح كيف تتفاعل الجسيمات على المستوى الكمي، مثل الإلكترونات والبروتونات.
وتستخدم هذه المعادلة على نطاق واسع في الفيزياء والكيمياء، حيث تساعد في فهم الظواهر مثل الطيف الذري والروابط الكيميائية.
شرودنغر وقطة شرودنغر
إلى جانب إسهاماته في تطوير ميكانيكا الكم، يُعرف شرودنغر أيضًا بتجربته الفكرية الشهيرة “قطة شرودنغر”.
هذه التجربة الفكرية، التي نُشرت في عام 1935، كانت تهدف إلى تسليط الضوء على التناقضات المحتملة في تفسير “كوبنهاغن” لميكانيكا الكم.
في التجربة، يتم وضع قطة داخل صندوق مع آلية تحتوي على ذرة مشعة وزجاجة من السم؛ فإذا تحللت الذرة، تنكسر الزجاجة وتقتل القطة.
ووفقًا لميكانيكا الكم، تكون القطة في حالة تراكب من “الحياة” و”الموت” حتى يتم فتح الصندوق ومراقبتها.
تهدف تجربة “قطة شرودنغر” إلى إظهار الصعوبات المفاهيمية في تفسير ميكانيكا الكم. فقد أثارت الكثير من النقاش حول طبيعة الواقع والقياس في المستوى الكمي، وما إذا كان الواقع موجودًا بشكل مستقل عن الملاحظة.
التأثير على العلوم والفلسفة
لم تكن إسهامات شرودنغر مقتصرة على الفيزياء فقط؛ بل كان له تأثير كبير في الفلسفة أيضًا. فقد كتب شرودنغر عن قضايا فلسفية مرتبطة بالعلوم والواقع والوعي.
في كتابه “ما هي الحياة؟” (1944)، حاول الربط بين ميكانيكا الكم والبيولوجيا، واستكشاف دور الفيزياء في فهم الأسس المادية للحياة.
هذا الكتاب كان له تأثير عميق على العلماء في مجال البيولوجيا الجزيئية، بما في ذلك جيمس واتسون وفرانسيس كريك، اللذان اكتشفا بنية الـ DNA.
شرودنغر والعالم الجديد
في الثلاثينيات من القرن العشرين، ومع تصاعد النازية في أوروبا، اضطر شرودنغر لمغادرة ألمانيا حيث كان يدرس في جامعة برلين.
انتقل إلى إنجلترا ومن ثم إلى إيرلندا، حيث قام بتأسيس معهد للدراسات المتقدمة في دبلن وعمل هناك حتى عام 1956. في دبلن، واصل شرودنغر العمل على مشاريعه العلمية والفلسفية، وكتب العديد من المقالات والأعمال التي تعكس اهتمامه العميق بالفلسفة الشرقية والمفاهيم الميتافيزيقية.
الإرث العلمي
توفي إرفين شرودنغر في عام 1961، لكنه ترك وراءه إرثًا علميًا وفلسفيًا ضخمًا. تُعتبر معادلة شرودنغر واحدة من الركائز الأساسية في الفيزياء الحديثة، وتظل تُدرَّس وتُستخدم في الأبحاث العلمية حتى يومنا هذا.
كما أن تجربته الفكرية “قطة شرودنغر” لا تزال تُثير نقاشات حول طبيعة الواقع وأسس الفيزياء.
شرودنغر لم يكن مجرد عالم فيزياء؛ بل كان فيلسوفًا وعالمًا متعدد الاهتمامات، سعى لفهم الطبيعة من زوايا مختلفة.
إسهاماته العلمية والفكرية تجعل منه شخصية لا تُنسى في تاريخ العلم، وهو يمثل رمزًا للتكامل بين العلوم والفلسفة، حيث يمتزج التحليل الرياضي العميق مع التفكير الفلسفي العميق في محاولة لفهم ألغاز الكون.
اقرا ايضا: سيبويه.. مؤسس علم النحو العربي