حررها: محمد صادق امين
في سياق الفتوحات الإسلامية الكبرى في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، نشأت الحاجة إلى إقامة مدن جديدة ذات طابع عسكري وإداري بهدف استيعاب الجيوش الفاتحة وتنظيم شؤون الأقاليم المفتوحة.
كانت هذه المدن نواة للتوسع الحضاري الإسلامي، ومراكز للسلطة والإدارة، ومواقع استراتيجية لحماية حدود الدولة الإسلامية، كما ساهمت في نشر الثقافة الإسلامية في مناطق جديدة.
إن سياسة عمر بن الخطاب في تأسيس مدن جديدة ذات طابع عسكري وإداري لم تكن مجرد استجابة ظرفية، بل كانت رؤية استراتيجية لبناء دولة مستقرة ومترابطة.
بهذه المدن، أرسى الخليفة الراشد قواعد التنظيم العسكري، والإدارة الإقليمية، والتنمية الاقتصادية، التي أصبحت الأساس الذي قامت عليه الدولة الإسلامية الكبرى لاحقًا.
. خلفية تأسيس المدن
مع توسع الدولة الإسلامية إلى العراق ومصر والشام وفارس، واجه المسلمون تحديات منها:
– ضرورة استقرار الجند بعد الفتح.
– الحاجة إلى مراكز إدارية قريبة من السكان المحليين.
– الحاجة إلى نقاط تموين واتصال بين الدولة المركزية (المدينة المنورة) والأمصار.
– تفادي الاختلاط الكامل بين الجنود الفاتحين وأهل البلاد قبل ترسيخ التعاليم الإسلامية.
– جاء اقتراح إنشاء المدن من كبار الصحابة والقادة العسكريين مثل سعد بن أبي وقاص، وعمرو بن العاص، وعتبة بن غزوان، وقد وافق عمر على المقترحات بعد دراستها.
. مدة الإنشاء
لم تُنشأ هذه المدن دفعة واحدة، وإنما على مراحل، واستغرقت في المجمل بين 6 إلى 8 أشهر للتأسيس الأولي (المسجد، دار الإمارة، خطط القبائل، السوق)، ثم استمرت في التوسع لاحقًا.
. أبرز المدن التي أسسها عمر بن الخطاب
1. مدينة الكوفة (العراق)
– سنة التأسيس: 17 هـ
– الموقع: قرب نهر الفرات
– الهدف: استقرار جند المسلمين بعد فتح المدائن.
– ولي عليها: في البداية سعد بن أبي وقاص، ثم عمار بن ياسر.
. سمات المدينة:
– بنيت على طراز المعسكرات الرومانية.
– بني فيها مسجد كبير وسط المدينة.
– قسمت إلى قبائل وأحياء منظمة.
– أُسست بها سوق مركزية ودار للإمارة.
2. مدينة البصرة (العراق)
– سنة التأسيس: 14 هـ
– الموقع: قرب شط العرب (نهر دجلة والفرات)
– الهدف: قاعدة لفتح فارس وشرق الدولة.
– ولي عليها: عتبة بن غزوان، ثم المغيرة بن شعبة.
– سمات المدينة:
– كانت معسكرًا عسكريًا ثم تحولت إلى مدينة.
– أُقيمت فيها شبكات ري ومخازن غذائية.
– اختيرت بسبب موقعها التجاري البحري.
3. مدينة الفسطاط (مصر)
– سنة التأسيس: 21 هـ
– الموقع: قرب حصن بابليون (القاهرة لاحقًا)
– الهدف: مقر للحكم الإسلامي بعد فتح مصر.
ولي عليها: عمرو بن العاص.
– سمات المدينة:
– بنيت حول مسجد عمرو بن العاص.
– اعتمدت نمط التخطيط العسكري الروماني.
– ضمت ديوانًا وجيشًا وسوقًا كبيرًا.
. الخصائص المشتركة لهذه المدن
– التخطيط الدائري أو المستطيل مع مركز إداري ومسجد جامع.
– تقسيم السكان حسب القبائل لتسهيل التنظيم العسكري.
– وجود دار الإمارة (مقر الحاكم) وسط المدينة.
– بناء الأسواق المركزية ومخازن الغلال.
– شبكات طرق داخلية تربط بين الأحياء والأسوار.
رابعًا: الأثر الإداري والعسكري للمدن الجديدة
– سهّلت تمركز الجيوش بعيدًا عن السكان المحليين.
– جعلت من المدن نقاط انطلاق لغزوات جديدة.
– أسهمت في تنظيم الجند وتوزيع العطاءات من خلال دواوين خاصة.
– وفرت إدارة مركزية فعالة في المناطق المفتوحة.
– ساعدت في جمع الخراج والضرائب وتنظيم البريد.
– مهّدت لإقامة البنية التحتية مثل الدواوين والقضاء والأسواق.
الأثر الاقتصادي والثقافي:
– نشّطت التجارة عبر الأسواق الجديدة.
– جذبت الحرفيين والعلماء والمهاجرين من مختلف أنحاء الدولة.
– أصبحت هذه مراكز إشعاع ثقافي وحضاري في العصور اللاحقة.
. تطور المدن في العصور اللاحقة
– تطورت الكوفة إلى عاصمة علمية كبرى خاصة في الفقه والحديث.
– أصبحت البصرة من أعظم الموانئ في العالم الإسلامي.
– الفسطاط تطورت إلى القاهرة وأصبحت من أعظم حواضر العالم الإسلامي.
. شخصيات تحرجت من هذه المدن
الكوفة:
– الخيلفة الراشد علي بن أبي طالب جعلها مركزا للخلافة بدل المدينة المنورة.
– الإمام أبو حنيفة.
– عبد الله بن مسعود.
– القاضي شريح.
البصرة:
– الحسن البصري.
– واصل بن عطاء (مؤسس المعتزلة).
– سيبويه (رائد النحو).
– القائد المهلب بن أبي صفرة.
الفسطاط:
– عبد الله بن عمرو بن العاص.
– الإمام الليث بن سعد.
– عبد الرحمن بن عبد الحكم المؤرخ.
. من أبرز الولاة الذين تولوا المدن:
– المغيرة بن شعبة (البصرة).
– زياد بن أبيه (الكوفة ثم البصرة).
– عبد الله بن سعد بن أبي سرح (الفسطاط).
. المصادر:
الطبري، تاريخ الأمم والملوك.
البلاذري، فتوح البلدان.
اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي.
ابن خلدون، المقدمة.
الماوردي، الأحكام السلطانية.
الذهبي، سير أعلام النبلاء.
الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد.