بقلم: محمد صادق أمين
كان قرار عمر بن الخطاب بإنشاء الدواوين ثورة إدارية متقدمة في بناء الدولة المسلمة، مهدت لتأسيس نظام إداري إسلامي منضبط، حافظ على المال العام، وخدم مصالح المسلمين في أنحاء الدولة.
وقد أثبتت التجربة أن الاجتهاد السياسي والإداري المنضبط بالشريعة قادر على إبداع مؤسسات متقدمة تُواكب التوسع الحضاري، وهو ما رسخه عمر كقدوة في فكر الدولة الإسلامية.
. أهمية الدواوين
– الدواوين هي مؤسسات إدارية متخصصة في تنظيم شؤون الدولة وتوثيق الموارد والنفقات وتسجيل أسماء المستفيدين من الخدمات العامة، مثل العطاءات والرواتب.
– تُعد هذه النظم من الركائز الأساسية لبناء الدولة الحديثة، حيث تضمن الشفافية، والانضباط، وتوزيع الثروة بعدالة، وهي تُشبه إلى حد كبير الوزارات والإدارات الحديثة.
– في ظل التوسع السريع للدولة الإسلامية في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه (ت 23 هـ)، ظهرت الحاجة إلى تنظيم مالي وإداري متين يستوعب دخول الأراضي المفتوحة والموارد الجديدة.
– جاءت فكرة إنشاء الدواوين كأداة لتنظيم شؤون الدولة المتنامية، والحفاظ على المال العام، وتسيير أمور الجيش والشعب، وقد اعتبره الفقهاء مثالاً بارزًا على الاجتهاد في السياسة الشرعية.
. مصدر فكرة الدواوين
– وصلت فكرة الدواوين إلى المسلمين من نظم الحكم الفارسية والرومانية التي احتك بها المسلمون بعد الفتوحات، لا سيما في العراق وفارس، حيث كانت الدواوين تُستخدم في إدارة الجند، الضرائب، والمراسلات.
– الصحابيان الجليلان الحُر بن قيس، والوليد بن هشام، عرضا على عمر فكرة الديوان على غرار الفُرس، فاستشار الصحابة ومنهم عبد الرحمن بن عوف، فوافق على الفكرة لما فيها من تنظيم وضبط إداري يخدم مصالح الأمة.
. مشروعية الأخذ بالدواوين
لم تكن الدواوين موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في خلافة أبي بكر، لكنها أُحدثت عند الحاجة إليها، وفق قاعدة المصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية، أي كل ما يخدم مصلحة الأمة ولم يرد فيه نص شرعي يمنعه.
– أقر كبار الصحابة ذلك، وتولى الخليفة عمر التطبيق بنفسه، مما يدل على مشروعيتها.
– يقول الإمام الشاطبي في “الموافقات”: “المصالح المرسلة هي التي تجلب نفعًا أو تدرأ ضررًا لم يقم دليل خاص على اعتبارها أو إلغائها، فتبقى معتبرة بقياسها على مقاصد الشريعة العامة”.
. أهم الدواوين التي استحدثت
1. ديوان الجند
– المهام: تسجيل أسماء الجنود، تنظيم صفوف الجيش، تحديد الرواتب، إعداد الجيوش، وتنظيم حملات الفتح.
– الإدارة: أنشأه عمر سنة 20 هـ بعد اتساع الفتوحات، وكان يديره كتاب مختصون، تحت إشراف مباشر من الخليفة.
– التنظيم: أُنشئ وفق سجلات دقيقة حسب القبائل، ورتّب فيه الناس حسب السبق إلى الإسلام والمشاركة في الغزوات، وكان يُكتب فيه اسم الجندي، نسبه، سلاحه، وأهل بيته إن كانوا يعالون.
المصدر: “الطبري” في تاريخه، و”الكندي” في ولاة مصر.
2. ديوان العطاء
– المهام: توزيع الأموال القادمة من الغنائم والخراج والجزية على المسلمين، وتحديد العطاء السنوي لكل فرد.
– الإدارة: يشرف عليه الخليفة، وعمل فيه كبار الصحابة مثل زيد بن ثابت ككاتب، لما عُرف عنه من دقة وضبط في الكتابة.
– التنظيم: رُتّب العطاء بحسب القرب من النبي (صلى الله عليه وسلم) والمشاركة في بدر، وكان ذلك تأكيدًا لمبدأ “السبق والفضل”، وقد قُدّر العطاء الأعلى لعلي بن أبي طالب، وعثمان، وطلحة، والزبير.
المصدر: ابن سعد في “الطبقات الكبرى”، والماوردي في “الأحكام السلطانية”.
3. ديوان الخراج
– المهام: توثيق وتحصيل الضرائب على الأراضي الزراعية المفتوحة (الخراج).
– الإدارة: استُعين بخبراء من الفرس مثل “بهمن بن بردويه”، وكان تحت إشراف ولاة الأقاليم مثل سعد بن أبي وقاص في العراق.
– التنظيم: حُدّدت فيه مساحة الأراضي، ونوعية المحاصيل، وقيمة الخراج السنوي. وقد أوقف عمر توزيع الأرض المفتوحة، وجعلها وقفًا لبيت المال وأهلها يدفعون الخراج.
المصدر: البلاذري في “فتوح البلدان”، وأبو يوسف في “كتاب الخراج”.
4. ديوان البريد
– المهام: إيصال الرسائل الرسمية بين عاصمة الخلافة والأمصار، ومراقبة أحوال الولاة.
– الإدارة: أسس نواته عمر، وبدأ تنظيمه الحقيقي لاحقًا في الدولة الأموية.
– التنظيم: اعتمد على شبكة خيول ومحطات، وكان ينقل البريد والمسافرين الرسميين بسرعة كبيرة.
المصدر: ابن خلدون في “المقدمة”.
. تطور عمل الدواوين في العهدين الأموي والعباسي
في العهد الأموي:
– زاد الاهتمام بتنظيم الدواوين، وبدأ تعريب الدواوين في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان (ت 86هـ)، بعد أن كانت تكتب باليونانية والفارسية.
– تم تطوير ديوان الرسائل، وديوان الخاتم (لتوثيق الأوامر الملكية قبل إصدارها)، وديوان الخزائن.
– أصبح لكل ولاية ديوان خاص بها يرفع تقاريره إلى ديوان دمشق.
في العهد العباسي:
توسعت الدواوين وتفرعت، وأُنشئت دواوين جديدة تشمل:
– ديوان الزمام: للرقابة المالية.
– ديوان الإنشاء: لإصدار المراسلات الرسمية.
– ديوان الترجمة: للتعامل مع الشعوب غير العربية.
– ديوان البريد والمخابرات: الذي بلغ أوجه في عهد هارون الرشيد.
– اعتمد الخلفاء على الوزراء لإدارة الدواوين، أبرزهم البرامكة.
. تطور عمل الدواوين في في العصور الإسلامية المتأخرة
– تطورت الدواوين في العصور الإسلامية المتأخرة، مثل الدولة الفاطمية، المملوكية، والعثمانية.
– أصبحت تُعرف باسم الوزارات، وتضمنت: ديوان الجيش، ديوان الأوقاف، ديوان التعليم، ديوان البحرية، وديوان التفتيش العام.