-أقر الإسلام في منهجه احترام التعَدُدية التي تتسم بها حياة البشر على الأرض، لذلك احترمت الشريعة التعددية الدينية والفكرية، ورسخت مبدأ الاعتراف الإيجابي بالآخر، وبناء على ذلك تمكن الإسلام من بناء حضارة عريقة تعايش فيها أجناس من البشر، مختلفين في اللغات والاعراق والقوميات والاثنيات والانتماءات القبلية، إلى جانب وجود أديان متعددة ومذاهب مختلفة وتوجهات متضاربة داخل هذه الحضارة، وهو ما أهلها لتدوم في الريادة 14 قرناً متواصلة.
-اعتبر القرآن الكريم الاختلاف بين الناس أصل لوجودهم، فقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)) هود:118-119، وفي هذا الإطار اعترف الإسلام بالآخر المخالف رغم أنه اعتبر شريعته خاتمة للشرائع السماوية، وجعل الالتزام بها شرطاً للنجاة يوم القيامة، لكن ذلك لايمنع التعايش الذي يفضي إلى بناء الحضارة، فقال تعالى (لكم دينكم ولي دين) الكافرون:6.
-القرآن الكريم حوى مجموعة من القواعد الواضحة لحفظ المجتمعات البشرية وإبعاد الفتن الطائفية عنها، فأعلن أن الناس جميعاً قد خُلقوا من نفسٍ واحدة، ما يعني أنهم مشتركون في وحدة الأصل الإنساني، حيث قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)،[٧] فجميع البشر على وجه هذه الأرض يشتركون في الإنسانية، وبالتالي كفل لهم الإسلام الحق بالحياة والعيش بكرامةٍ؛ دون تمييزٍ بينهم، وذلك من مبدأ أن الإنسان مُكرَّمٌ لذاته، يغض النظر عن ديانته أو أو لونه أو عرقه أو منشئه.
-أول حاضنة للدولة الاسلامية في عهد النبوة، كانت نموذجا للتعايش والسلام بين المختلفين، فحينما دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة المنورة وأسس فيها دولته، عاش المسلمون مع اليهود والكفار والمنافقين في سلام وتعايش آمن، لا يعتدي مسلم على مخالف فالكل منضوي تحت حكم القانون، وقد لخص القرآن الأمر في آية واحدة قائلًا: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الممتحنة: 8]، وقد مدح القرآن من يطعم كافرًا وقع أسيرًا في أيدي المسلمين، فقال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)[الإنسان: 8].
-اعتبرت الشريعة الإسلامية اختلاف الناس في الوانهم والسنتهم وأعراقهم، دليل عظمة الله التي تستوجب التأمل والتدبر، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}.
-اعتبرت الشريعة الإسلامية الأصل في العلاقة بين الشعوب المختلفة، قائم على التعايش والتعارف والتواصل والتكامل، خدمة للإنسانية، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
-حفظ الإسلام للمختلفين حقوقهم في ظل الدولة الإسلامية، في إطار ما يعرف بحق المواطنة حديثاً، ومن ذلك إلى جانب الحق في الحياة، الحق فد عدم المساس بحقوقهم الشخصية والدينية التعبدية على حد سواء، قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في ذلك: (من قتل مُعاهَدًا لم يَرَحْ رائحةَ الجنَّةِ، وإنَّ ريحَها توجدُ من مسيرةِ أربعين عامًا) رواه البخاري.
–وقد جعل الله تعالى في كتابه العزيز تغلّب المسلمين وجهادهم لدفع العدوان ورفع الطغيان وتمكين دين الله وشرعيته لهم في الأرض سببًا في حفظ دور العبادة عامة من الهدم وضماناً لأمنها وسلامة أصحابها، كما قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ 40 الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ 41). سورة الحج.
قال عبدالله بن عباس: (الصوامع التي تكون فيها الرهبان، والبِيَع مساجد اليهود، وصلوات كنائس النصارى، والمساجد هي مساجد المسلمين).