قورش الكبير
قورش الكبير (559-530 ق.م)، هو أحد أعظم الحكام في تاريخ الشرق الأوسط القديم، وهو مؤسس الإمبراطورية الأخمينية الفارسية التي غدت أكبر إمبراطورية شهدها العالم حتى ذلك الوقت.
شخصية قورش تتمتع بجاذبية استثنائية، ليس فقط كحاكم فاتح، بل كقائد سياسي محنك، ورمز للتسامح والعدل.
منذ عهده وحتى اليوم، بقي قورش مصدر إلهام للحكماء والمفكرين، لما اتسم به من عدالة وحكمة نادرة في إدارة شؤون مملكته التي امتدت عبر ثلاث قارات.
النشأة والتأسيس
وُلد قورش في عام 600 أو 576 ق.م في مدينة أنشان الواقعة في إقليم فارس. ينحدر من عائلة ملكية، حيث كان والده قمبيز الأول ملك أنشان وأمه ماندانا ابنة الملك الميدي أستياجيس.
منذ صغره، تربى على مبادئ القيادة والشجاعة، وأظهر موهبة مبكرة في الحكم والاستراتيجيات العسكرية.
في بداية حكمه، كان قورش يتولى إمارة صغيرة نسبياً داخل مملكة فارس، لكن طموحه وعقله العسكري الفذ سرعان ما دفعاه إلى توسيع حدود مملكته.
وفي عام 550 ق.م، قاد قورش تمردًا ناجحًا ضد جده أستياجيس، ملك الميديين، مما أدى إلى ضم ميديا إلى إمبراطوريته، وكان هذا أول خطوة نحو بناء الإمبراطورية الأخمينية.
الإمبراطورية الأخمينية: أكبر إمبراطورية في التاريخ القديم
خلال فترة حكمه، لم يكن قورش مهتمًا فقط بضم الأراضي بالقوة العسكرية، بل اعتمد على مزيج من الدبلوماسية والاستراتيجيات العسكرية المبتكرة.
بعد أن سيطر على ميديا، اتجه نحو ليديا، التي كانت إحدى أغنى الممالك في العالم القديم، تحت حكم الملك كروسوس. في معركة فاصلة عام 547 ق.م، تمكن قورش من هزيمة كروسوس وضم مملكته.
لكن الفتح الأكثر شهرة لقورش كان استيلاءه على بابل عام 539 ق.م. بعد حصار قصير، دخل قورش العاصمة البابلية دون أي مقاومة تذكر.
وكان هذا الفتح مختلفًا عن غيره، حيث لم يدمر المدينة أو ينكل بسكانها، بل سمح بالحفاظ على عاداتهم ومعتقداتهم الدينية.
كما أعاد اليهود الذين كانوا في المنفى البابلي إلى أورشليم وأمر بإعادة بناء معبدهم، مما جعله شخصية محبوبة لدى اليهود عبر التاريخ.
فلسفة الحكم عند قورش: التسامح والعدل
من أبرز صفات قورش التي جعلته مختلفًا عن غيره من الحكام الفاتحين في التاريخ القديم هو تسامحه الديني والثقافي.
كان يحترم الشعوب المختلفة التي ضمها إلى إمبراطوريته، ويسمح لها بالحفاظ على تقاليدها وأديانها.
هذا النهج الحكيم ساعده في كسب ولاء السكان المحليين وجعلهم جزءًا من نسيج الإمبراطورية بدلًا من أن يكونوا مجرد شعوب محتلة.
نُقشت إحدى أشهر أفعاله على ما يُعرف الآن بـ “أسطوانة قورش”، التي اعتبرت واحدة من أقدم الوثائق التي تعبر عن حقوق الإنسان.
أظهرت الأسطوانة أن قورش لم يكن يسعى فقط إلى حكم الأراضي بالسيطرة العسكرية، بل كان يعمل على تحسين حياة الشعوب التي غزاها، مما يعزز صورته كحاكم عادل ورحيم.
إرث قورش الكبير
ترك قورش الكبير إرثًا لا يمحى في تاريخ العالم. بعد وفاته في معركة ضد أحد القبائل في آسيا الوسطى عام 530 ق.م، استمرت الإمبراطورية الأخمينية في التوسع تحت حكم خلفائه، حتى أصبحت الإمبراطورية الأخمينية أول إمبراطورية عابرة للقارات.
في التراث الإيراني، يعتبر قورش مؤسس أول دولة فارسية قوية ومصدرًا للفخر الوطني.
وقد كُتبت عنه العديد من الأساطير والقصص التي تروي حكمته وعدله.
كما يعتبره البعض بطلًا قوميًّا، حتى أن قبره في باسارغاد ما زال يحتفظ بمكانة رمزية في الثقافة الإيرانية.
قورش في الثقافة العالمية
أثر قورش الكبير لم يقتصر فقط على الفرس، بل امتد تأثيره إلى العديد من الثقافات الأخرى. في الأدبيات اليونانية، أشاد الفيلسوف والمؤرخ اليوناني زينوفون بقورش في كتابه “التربية”، حيث قدمه كقائد مثالي يجمع بين القوة العسكرية والحكمة السياسية. يُعتبر هذا الكتاب من أولى الأعمال التي تناولت فن القيادة.
كما أن تأثيره الكبير في مفهوم الحكم العادل يظهر جليًا في التاريخ اليهودي، حيث اعتُبر قورش بمثابة “مسيح” مُرسل من الله لإنقاذ اليهود من الأسر البابلي.
وقد أُشيد به في الكتاب المقدس بسبب مساهمته في تحرير الشعب اليهودي وإعادة بناء الهيكل في القدس.
اقرا ايضا: الدكتور فاضل صالح السامرائي