جيفارا
إرنستو جيفارا، المعروف باسم “تشي”، هو شخصية تاريخية ثورية اشتهرت عالميًا ليس فقط لدوره البارز في الثورة الكوبية، ولكن أيضًا لأفكاره الراديكالية والمبادئ الثورية التي ما زالت تُلهم أجيالًا من الثوار والمفكرين حتى اليوم.
ولد جيفارا في 14 يونيو 1928 في مدينة روساريو بالأرجنتين لعائلة من الطبقة الوسطى، وقد كان منذ صغره مولعًا بالقراءة والفكر.
درس الطب في جامعة بوينس آيرس، ولكن حياته أخذت منعطفًا مختلفًا تمامًا عندما بدأ في استكشاف الواقع الاجتماعي والسياسي لأمريكا اللاتينية.
البداية: الرحلات التي غيرت مصيره
كانت رحلة جيفارا بالدراجة النارية عبر أمريكا اللاتينية عام 1951 نقطة تحول كبيرة في حياته.
خلال هذه الرحلة التي استمرت تسعة أشهر، تنقل عبر الأرجنتين وتشيلي وبوليفيا وبيرو وكولومبيا، وهناك شاهد عن كثب الفقر المدقع والظلم الاجتماعي والاستغلال الذي يعاني منه الفلاحون والعمال في تلك البلدان.
هذه التجربة عمقت لديه الإحساس بالظلم وأثرت بشكل كبير على رؤيته للعالم، وبدأت تتشكل لديه قناعة بأن الحل يكمن في الثورة الشعبية.
الثورة الكوبية
بعد انتهاء دراسته، انخرط جيفارا في نشاط سياسي وثوري متزايد، وبدأت تتبلور لديه رؤيته الاشتراكية.
في عام 1955، التقى بفيدل كاسترو، الذي كان في ذلك الوقت يخطط للإطاحة بنظام الدكتاتور الكوبي فولغينسيو باتيستا.
رأى جيفارا في هذا اللقاء فرصة لتطبيق أفكاره الثورية على أرض الواقع، فانضم إلى كاسترو وحركته “حركة 26 يوليو”، التي كانت تسعى لتحرير كوبا من الاستبداد والفساد.
شارك جيفارا في الثورة الكوبية ليس كطبيب فقط، بل كقائد عسكري واستراتيجي محنك.
نجح هو ورفاقه في كسب تأييد الجماهير الفقيرة والفلاحين، وشنوا حرب عصابات استمرت لعدة سنوات ضد قوات باتيستا.
وبعد نجاح الثورة في عام 1959، أصبح جيفارا شخصية مرموقة في الحكومة الكوبية الجديدة، وتولى العديد من المناصب المهمة مثل وزير الصناعة ورئيس البنك المركزي.
أفكار جيفارا الاقتصادية والاجتماعية
كان جيفارا يؤمن بأن الاشتراكية هي الحل الوحيد لتحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على الفقر والاستغلال.
وقد حاول في كوبا تطبيق سياسات اقتصادية تستند إلى الاشتراكية، مثل تأميم الصناعات الكبرى وإعادة توزيع الأراضي على الفلاحين.
ومع ذلك، واجهت سياساته الاقتصادية انتقادات واسعة سواء من الداخل أو الخارج، حيث كانت النتائج الاقتصادية لكوبا في ظل هذه السياسات غير مرضية بالنسبة للكثيرين.
كما كان جيفارا ينادي بفكرة “الإنسان الجديد” الذي يتجاوز الأنانية الفردية ويعمل لصالح المجتمع ككل.
كان يؤمن بأن الثورة لا تقتصر فقط على التغيير السياسي أو الاقتصادي، بل تشمل أيضًا تغيير القيم والثقافة لبناء مجتمع جديد قائم على التضامن والمساواة.
الثورة العالمية وفكرة “تصدير الثورة”
لم يكن جيفارا راضيًا عن نجاح الثورة الكوبية فقط، بل كان يطمح إلى نشر الثورة في جميع أنحاء العالم، وخاصة في دول العالم الثالث التي كانت تعاني من الاستعمار والفقر.
سعى إلى تصدير الثورة إلى مناطق أخرى في أمريكا اللاتينية وأفريقيا، واعتقد أن الكفاح المسلح هو الوسيلة الأنسب لتحقيق التغيير الثوري.
في عام 1965، غادر جيفارا كوبا متوجهًا إلى الكونغو حيث حاول تنظيم ثورة ضد النظام الحاكم هناك، لكنه فشل في تحقيق أهدافه وعاد إلى أمريكا اللاتينية.
قرر لاحقًا الذهاب إلى بوليفيا في محاولة لإشعال ثورة جديدة هناك، لكنه قوبل بمقاومة شرسة من الجيش البوليفي الذي كان مدعومًا من وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA).
القبض والإعدام: نهاية رمزية
في أكتوبر 1967، تم القبض على جيفارا من قبل الجيش البوليفي في منطقة نائية، وبعد عدة أيام من التحقيق، أُعدم بوحشية في 9 أكتوبر 1967.
كانت هذه النهاية الدراماتيكية لجيفارا تزيد من أسطورته، حيث تحول إلى رمز للثورة والمقاومة في جميع أنحاء العالم.
صورته الشهيرة بقبعته العسكرية ولحيته الكثيفة أصبحت أيقونة عالمية للتمرد ضد الظلم والقمع.
إرث جيفارا: بين الأسطورة والواقع
رغم وفاته منذ أكثر من نصف قرن، لا يزال إرث جيفارا يثير الجدل حتى اليوم. بالنسبة للبعض، هو بطل ثوري ومثال للتضحية والنضال من أجل العدالة الاجتماعية.
بالنسبة للآخرين، هو مجرد شخصية مثيرة للجدل ارتبطت بالعنف والقمع السياسي. لكن لا يمكن إنكار أن أفكاره ومبادئه تركت أثرًا عميقًا في التاريخ الحديث.
أصبح جيفارا رمزًا للمقاومة ضد الإمبريالية، وأيقونة للحركات اليسارية في جميع أنحاء العالم.
لا تزال سيرته تُدرس في الكتب، وتُستلهم منها الأفلام والأغاني، كما تستمر أفكاره في إلهام الثوار والمفكرين الذين يسعون إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتغيير الواقع.
في النهاية، إرنستو “تشي” جيفارا لم يكن مجرد ثائر أو قائد عسكري، بل كان أيضًا فيلسوفًا ومفكرًا، تتجاوز أفكاره الحدود الجغرافية لتصل إلى كل من يسعى إلى عالم أكثر عدالة وإنسانية.
اقرا ايضا: الدكتور فاضل صالح السامرائي