تفسير قوله تعالى: “إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ”
الحمد لله الذي أنزل القرآن نورًا وهدى للعالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
قوله تعالى: “إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ” ورد في سورة يوسف (الآية 28)، وهو جزء من قصة النبي يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز.
لفهم هذا النص القرآني الكريم، يتطلب الأمر تأملًا في السياق الذي وردت فيه الآية ومعناها ودلالاتها.
السياق القرآني للآية
تأتي الآية في سياق قصة نبي الله يوسف عليه السلام، الذي تعرض لفتنة عظيمة من امرأة العزيز، زوجة الرجل الذي اشترى يوسف من مصر.
بعد أن راودته امرأة العزيز عن نفسه وحاولت إغواءه، أظهر يوسف عليه السلام قوة إيمانه وصدقه حين استعصم بالله وقال: “مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ” (يوسف: 23).
لاحقًا، وبعد أن حاولت امرأة العزيز الإمساك به، فرّ يوسف منها وركض باتجاه الباب. وفي هذه اللحظة، مزقت قميصه من الخلف، وعند الباب، التقت بزوجها العزيز.
حاولت امرأة العزيز تبرير فعلتها باتهام يوسف قائلة: “مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” (يوسف: 25).
لكن أحد الشهود أظهر الحق، وأثبتت الأدلة براءة يوسف. وهنا قال العزيز مخاطبًا امرأته: “إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ” (يوسف: 28).
تفسير الآية
الآية جاءت في خطاب مباشر من العزيز لزوجته بعد انكشاف حقيقة الموقف. دعونا نستعرض معاني الكلمات الرئيسية فيها لفهم دقيق:
- الكيد: الكيد في اللغة يعني التخطيط والخداع لتحقيق غرض معين. وغالبًا ما يكون مقرونًا بالسعي للإيقاع بالآخرين دون علمهم.
- عظيم: يشير إلى قوة الكيد وشدة تأثيره.
من هنا، يفهم أن العزيز يصف خداع امرأة العزيز بالمكر العظيم، نظرًا لما تضمنته خطتها من محاولات للإيقاع بيوسف عليه السلام، ومن ثم اتهامه ظلمًا لإخفاء ذنبها.
الدروس المستفادة من الآية
هذه الآية ليست مجرد سرد لحادثة، بل تحمل في طياتها العديد من العبر والدروس:
- الإيمان والتقوى حصن منيع
تظهر القصة كيف أن الإيمان بالله والخوف منه يعينان الإنسان على مقاومة الفتن والمغريات، مهما كانت عظيمة. يوسف عليه السلام كان مثالًا للصبر والعفاف. - قوة التخطيط لا تعني الحق
تُبرز الآية أن المكر والكيد وإن كانا عظيمين، إلا أن الله سبحانه يُظهر الحق مهما طال الزمن. فبراءة يوسف عليه السلام ظهرت رغم شدة كيد امرأة العزيز. - الاعتراف بالخطأ ضرورة
اعتراف العزيز بأن كيد زوجته عظيم يدل على أهمية مواجهة الأخطاء بشجاعة واتخاذ موقف عادل حتى لو كان ذلك ضد المقربين. - النساء وكيدهن
الآية لا تعمم الكيد على جميع النساء، بل تتحدث عن حالة معينة. فالقرآن في آيات أخرى أثنى على النساء المؤمنات الصالحات، وبيّن دورهن في نشر الخير والهداية.
التفسير الأعمق لكلمة “كيد” في القرآن
مصطلح الكيد ورد في القرآن في عدة مواضع، ولم يكن مقتصرًا على النساء. فقد ورد في حق الكافرين الذين كادوا للأنبياء: “وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ” (غافر: 25). مما يدل على أن الكيد صفة بشرية قد تكون للنساء أو الرجال، حسب السياق.
كيف نتعامل مع الفتن في حياتنا؟
قصة يوسف عليه السلام تعلمنا كيفية التعامل مع الفتن:
- الاستعانة بالله: اللجوء إلى الله بالدعاء كما فعل يوسف عندما قال: “رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ” (يوسف: 33).
- الثبات على المبادئ: يوسف عليه السلام لم يخضع للإغراءات رغم مكانته كعبد في بيت العزيز.
- الصبر على البلاء: القصة تعكس أهمية الصبر في مواجهة الابتلاءات، فالله يكافئ الصابرين بالنصر والتمكين.
في الختام
إن قوله تعالى: “إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ” هو شهادة على عظمة الحق وعدل الله تعالى، فهو سبحانه لا يظلم أحدًا، ويظهر الحق ولو بعد حين.
هذه الآية تعلمنا أن المكر مهما كان عظيمًا، فإن تقوى الله والصبر عليه أعظم وأقوى.
فلنتخذ من قصة يوسف عبرة في حياتنا، ولنتق الله في أقوالنا وأفعالنا، فهو سبحانه خير حافظ وخير معين.
اقرا ايضا: الفرق بين السَّنَة والعام في القران الكريم